هجوم موسكو- تحولات الشرق الأوسط وتعقيدات التسويات العالمية

في الأشهر الفائتة، كانت التطورات المتسارعة، لا سيما في بؤرة الشرق الأوسط، تنبئ ببزوغ حقبة جديدة، أو على الأقل بمسارات مغايرة للوقائع السياسية التي سبقت "طوفان الأقصى". هذه التحولات المحتملة تستند إلى تراكمات بدأت مع التقارب الإيراني السعودي برعاية صينية، والذي سبقه انفتاح خليجي على النظام السوري، وتقارب تركي مع مصر ودول الخليج. والآن، تشهد المنطقة حراكًا إقليميًا واسعًا، تتسم نتائجه بالغموض، في انتظار لحظة التسوية المنشودة.
إلا أن بوصلة الاهتمام العالمي انحرفت فجأةً نحو روسيا، التي تعرضت لهجوم مباغت ومنظم، على الرغم من أن جوانب كثيرة فيه لا تزال مبهمة، وكما أدى "طوفان الأقصى" إلى تحويل التركيز الإعلامي من أوكرانيا إلى قطاع غزة، كذلك حوّل هجوم موسكو أنظار العالم من غزة إلى روسيا.
مما لا شك فيه أن هجوم موسكو وما سيترتب عليه من تداعيات، سيستحوذ على حصة الأسد من الاهتمام الإعلامي الدولي، فها هي روسيا تشهد للمرة الثانية في أقل من عام حدثًا جللًا:
- أولًا: محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها قائد قوات فاغنر، يفغيني بريغوجين، والتي شتتت الانتباه العالمي بضربة موجعة للداخل الروسي وزحف سريع نحو موسكو، دون مقاومة جدية من الجيش أو الأجهزة الأمنية الروسية. أما نهاية الانقلاب فكانت أكثر غموضًا، ولم يمحُ مقتل بريغوجين، المتوقع، الأسئلة الكثيرة التي تحوم حول حقيقة ما جرى وخلفياته الحقيقية.
- ثانيًا: اليوم نشهد الحدث الأهم بضرب موسكو هذه المرة، بعد أيام قلائل من الانتخابات الرئاسية الروسية، التي منحت تفويضًا شعبيًا عارمًا للقيصر الروسي فلاديمير بوتين، مع أعلى نسبة أصوات على الإطلاق ليتبوأ سدة الحكم لولاية خامسة. إلا أن الفوز الانتخابي الساحق لبوتين لم يمنعه من الظهور في حالة من التخبط والذهول بعد العملية، ما اضطره للانتظار يومًا كاملًا قبل أن يطل على الشعب الروسي المصدوم من هول ما حدث.
بدا هجوم موسكو اختراقًا أمنيًا فادحًا على مستوى الأمن والاستخبارات، ما يفتح الباب أمام بوتين لإجراء تغييرات جذرية في الجسم الأمني، الذي لطالما حمّله مسؤولية فشل بعض العمليات والتحركات. هذا الهجوم قد يشكل فرصة سانحة لبوتين للتخلص من بعض المعارضين في جهاز الأمن الفدرالي، واستبدالهم بوجوه جديدة من جيل الاستخبارات الصاعد.
لكن ثمة ما هو أبعد وأكثر أهمية من ذلك، ألا وهو مسار الرد الانتقامي لموسكو. فبينما تبنى تنظيم داعش فرع خراسان المسؤولية عن العملية، سارعت القيادة الروسية منذ البداية إلى توجيه الاتهامات لأوكرانيا بالتورط في هذا العمل الإرهابي، وهنا تكمن العقدة الخفية والغامضة.
في مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، وقبيل "طوفان الأقصى"، تبنى تنظيم داعش فرع خراسان عملية انتحارية استهدفت السفارة الروسية في كابل، ما أدى إلى مقتل عدد من موظفي السفارة.
كانت هذه العملية بمثابة التحرك الأبرز للتنظيم بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان صيف العام 2021. وهذا يؤكد أن العداء بين التنظيم وروسيا لم يخمد قط.
إضافة إلى ذلك، فإن أسلوب التنفيذ هو أسلوب تنظيم داعش التقليدي، باستثناء النهاية غير المتوقعة للعملية، والتي تتنافى مع الأداء المعهود للتنظيم. ففي العادة، يواصل عناصر داعش إطلاق النار وتنفيذ عمليات القتل حتى نفاد الذخيرة، وعندها إما أن يفجروا أنفسهم أو يُقتلوا، أي أنهم يضعون حتمية مقتلهم في نهاية المهمة. أما ما حدث في موسكو فمختلف تمامًا، إذ تضمن خطة انسحاب مسبقة، وهذا أمر غريب على الأداء العسكري والأمني للتنظيم.
بالتوازي مع ذلك، فإن مسارعة الدولة الروسية إلى توجيه أصابع الاتهام لأوكرانيا، يوحي بوجود رغبة مسبقة في استغلال الظرف لتصعيد القصف على أوكرانيا والعمل على حسم الحرب بأسرع وقت ممكن، وفرض وقائع ميدانية نهائية وثابتة تطال كل أوروبا. فطريقة العملية والتعبئة الإعلامية التي بدأت منذ اللحظات الأولى، ترفعان بشكل مطرد مستوى النقمة والشعور بالقلق على الوجود والكيان، وتدفعان باتجاه رفع مستوى الاستنفار الداخلي، على أساس أن الخطر لم يعد على الحدود فقط، بل بات في العمق الروسي أيضًا.
ويبدو أن الصراع المحتدم بين واشنطن وموسكو في الساحل الأفريقي على النفوذ – والذي يمتد بقوة في الشرق الأوسط، سواء بشكل مباشر في سوريا أو بشكل غير مباشر في العديد من الساحات، بما فيها الساحة الفلسطينية – يعزز قدرة موسكو على تعبئة الشباب صغار السن للالتحاق بالجيش والقتال.
ومما لا شك فيه أن الرصيف البحري الأمريكي المزمع إنشاؤه على ساحل غزة، والذي يحمل لافتات إنسانية وإغاثية، سيشكل ضربة قاصمة لمشروع الممر البحري الروسي، الذي كان بوتين يطمح لإنشاء مساراته من ساحل طرطوس السورية، وصولًا لساحل طبرق الليبية، وليس انتهاءً بمحاولات روسيا المستمرة لوضع موطئ قدم لها في الساحل السوداني، لتضربه الولايات المتحدة بالخط العسكري الساخن من قبرص إلى غزة، والذي سيعزز حضور الناتو في المياه الدافئة.
لذا بدا واضحًا خلال الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن بعض العناوين السياسية المتعلقة برؤية واشنطن لليوم التالي في غزة كانت الأكثر استقطابًا للنقاش، وهي ما تمس الساحة الفلسطينية ومستقبلها وهوية الرعاة الجدد لها، ومنها ما يتعلق باستكمال آخر حلقات التطبيع مع إسرائيل مع دخول السعودية إلى نادي الدول المنخرطة في مشروع السلام.
لكن الحقيقة الماثلة، أن هذا الملف شائك ومعقد ويطال الضمانات الأمنية والعسكرية للوجود الخليجي في البحر الأحمر والبحر المتوسط، بالتزامن مع إعادة صياغة المعادلة الإقليمية بشكل كامل، حيث من المفترض أن تكون خطوطها العريضة قد جعلت التوقيت ملائمًا لاستقبال أبوظبي مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله الحاج وفيق صفا، بالتوازي مع الحرارة المرتفعة في علاقة الرياض ودمشق، والتي قد تتوج قريبًا بقمة سعودية – سورية في قصر المهاجرين.
زيارة صفا أعقبت زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لواشنطن، والذي حمل معه الملف اللبناني كملف رئيسي للقاءاته، والتصور الكبير المطروح لليوم التالي على مستوى الساحة الفلسطينية، وعلى مستوى المعادلة الإقليمية الجديدة، لكنه بحث أيضًا موضوع الواقع العسكري مع الجنوب اللبناني، وهو المعروف عنه موقفه بعد عملية "طوفان الأقصى" والداعي إلى فتح الحرب مباشرة على حزب الله.
أمام كل هذه المعطيات والوقائع، يرى البعض أن هناك فرصة سانحة أمام دول المنطقة، ولا سيما دول الخليج وإيران، للدخول في مسار جاد حول خلق تقاطعات فيما بينها حول جملة ملفات من اليمن إلى العراق، ومن سوريا إلى لبنان. في المقابل، يرى حلفاء الحزب ودمشق أن المنطقة تمر في مرحلة تحولات عميقة، في ظل استعداد روسيا لتصعيد هجومها العسكري على أوكرانيا، وانشغال الإدارة الأمريكية بمواكبة هذا التصعيد.
علمًا بأن هذه الاهتمامات ستتراجع مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، بينما يبقى خوض الإسرائيليين معركة رفح أمرًا شبه محسوم، ولكن بعدها يمكن أن يصبح الحديث جديًا في شهر يونيو/حزيران عن استقالة الحكومة الإسرائيلية، والذهاب إلى انتخابات مبكرة، أو بحال حصل العكس، فلا بد من انتظار الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل سيدفع هجوم داعش على موسكو، والذي سيخفف بعض الأضواء العالمية عن الشرق الأوسط، إلى تسهيل الذهاب إلى تسويات "اليوم التالي" في غزة ولبنان، حيث لروسيا حضورها الوازن في سوريا وليبيا، أم أن موسكو ستتحول إلى عقبة جديدة تزيد من تعقيدات المشهد في الشرق الأوسط؟
